Wednesday, May 18, 2005

أن تفخرَ بمصريتك

ساقتني الظروف للمرة الثانية خلال عدة أشهر للعمل مع صحبة عابرة للقارات، وياللسعادة، فقد أصبحت شابا عالمي المشارب - هكذا تمتمت لنفسي – فها هي الخبرات القادمة في جعبة اللوس أنجلوسيين تستعد لأتلقفها مرة ثانية بين راحتيّ.


لم تتح المرة الأولى لنا التقارب على المستوى الإنساني أو حتى حديثا يحمل نوعا ما من الخروج عن ضغط العمل، إلا أن هذه المرة كانت من الثراء الإنساني بمكان بحيث تدافعت الصدمات الحضارية حتى كدت أترنح تحت وطأتها الهائلة.


عند أول حديث جانبي استطعت أن أفهم أن رفيقيّ لن يذهبا بعيدا عن تصوري للإطار الطبيعي للأمريكي العادي، فمفهومهما عن الجغرافيا لا يتعد اهتمامهما بمدى بعد المحيط الباسيفيكي عن محلي سكنيهما، أما عن التاريخ فيكفي مرورهما بأثر يتعدى عمره عشرين ضعفا لعمر بلدهم حتى يصيبهما ذلك بلوثة تظهر جليا على قسمات وجهيهما، وربما أصبح تصورهما القاصر عن ثقافة بلاد تبعد آلاف الأميال هو الحافز لي على الإستفاضة في الحديث عن جوانب أراها خفية عن تفكيرهما وتقديم وجهة نظر مصري شعوبيّ النزعة وسط خضم من الأحاديث المتناثرة حول وطن ينتسب قصرا لشعوب لا تجمع بينه وبينها سوى اللغة المستخدمة في الكتابة.


استطعت إقناعهما بقضاء راحة منتصف النهار في أحد المقاهي بوسط المدينة، وبعد مقدمة من التعارف على "الشيشة" وأجواء المقاهي المصرية ومشروباتها بدأت في فاصل من الحديث الحماسي عن الشأن العظيم للثقافة المصرية حديثها وقديمها إلى أن بدأ صنبور المتسولين في مقاطعتي بغزارة كادت تجعلني أنفجر غاضبا في وجه آخر المتسولين ظهورا على مسرح الأحداث، قمت مستعجلا بدفع ثمن مشروباتنا وخرجت لأفاجيء بأحدهما وقد وضع قدمه على صندوق أحد ملمعي الأحذية المنتشرين على الرصيف، انتظرت ريثما ينتهي من تلميع حذاؤه ليثقب أذنيّ صوتا قائلا: تن باوند، اتجهت له صائحا: مين ياخويا..تن إيه؟، سألني خافضا صوته: هو انت معاهم، رددت: أمال مع الأسف، ومن مداولة لأخرى كان الجنيه العظيم في انتظاره بآخر الخط.


اكتشفت لاحقا أن جلوسنا بالمقهى كان أكثر رحمة من السير بشوارع القاهرة في منتصف النهار، يا الله، لقد كانت حقا فرصة عبقرية لتجربة عملية للتعرف على الشخصية المصرية، فلم يجد قائدو السيارات والمارة فرصة إلا واستغلوها لتعكير صفو ضيفيّ الكريمين، ويالكرم الضيافة!، فبعد السير لمسافة ثلاثمائة متر لم أجد أفضل من وضعهما في أقرب سيارة والعودة للعمل بأسرع ما يمكن لتفاجئني أسئلة من نوعية: ما السبب في ارتفاع أصوات آلات التنبيه عند توقف السيارات في تقاطعات الطرق؟، ما الفكرة في سباب الصبية والشباب للأجانب؟، كيف يمكن لرجال الشرطة رفع أصواتهم الغاضبة في وجوه سائقي السيارات والمارة؟، لكني لم أجد ردا أكثر تناسبا من ضحكة بلهاء مصاحبة لهز الأكتاف.


لم يدر بخاطريهما أن إخلاف الوعود والنسيان عادة متأصلة في الوجدان المصري، فقد جهزا نفسيهما للرحيل عن موقع العمل عند ميعاد وصول السيارة التي وعدني رئيسي بإرسالها لتقلنا، وبعد انتظار طال أكثر من ساعة ونصف الساعة اضطررت أن أقف في طريق "القاهرة – الإسكندرية" الصحراوي لأشير بعلامة "الأوتوستوب" للشاحنات في الواحدة والنصف صباحا إلى أن وصلت النجدة عن طريق الصدفة متمثلة في شكل أحد زملاء العمل من أصحاب السيارات.


كانت سهرتنا الأخيرة قبيل سفرهما في الفندق الفخم محل إقامتهما، ولعل الجلوس في مقهى فاخر بفناء الفندق لم يكن أفضل حالا من الجلوس في مقهى شعبي بوسط المدينة، فقد تعجبا من الفتيات المصريات وما يرتدينه من ثياب يظهر منها أن وظيفتها الرئيسية هي محاولة تقييد حركتهن بشتى الوسائل، ولعلي قد اخترت الوقت الأسوأ للحديث عن الإلتزام الديني للشعب المصري وسط بحر من زجاجات الجعة المتدافعة لأجواف المحيطين بنا.


لعلي كنت من الإرتياح بمكان عند قيامي بوداعهما في آخر الزيارة متمنيا لهما العودة يوما ما للقيام برحلة أفضل إيمانا مني بقدرة الله على فعل المعجزات.

Saturday, May 07, 2005

أيام لن تعوض

بالرغم من تأكيد الجميع على ضرورة التعامل بجدية وواقعية خلال الشهور الأخيرة للدراسة الجامعية وبالرغم من تعودي الجنوح نحو الجدية في الأعمال التي قمت بأدائها خلال فترة الدراسة، إلا أن الصدف ساقت لي خلال شهوري الجامعية الأخيرة شكلا من التوحد شبه الكامل مع زملاء الدراسة وإغراقا متكاملا في علاقاتنا ساقنا للهروب من الجدية والواقعية وتجلياتها المفزعة، لم يكن منا من يعتقد في مدى قدرتنا على التلاحم الإنساني بهذا الشكل الذي كان سببا في اصطدامنا بواقع الإفتراق بعد تخرجنا.
لم يكن ثمة جديد في أسباب تجمعنا منذ دخولنا الجامعة حتى وصلنا لتلك الشهور الأخيرة، نفس جلسات العمل المكثف قبيل تسليم المشاريع، السهر المتواصل أيام الإمتحانات النظرية، جلسات المقاهي بشبرا والزيتون والمطرية وبولاق، ربما كانت إقامتنا الشبه دائمة هي ما استجد وفتح مجالا لاندماج إنساني جعلنا أشبه بكتلة مرح بشرية تحمل كثافة السعادة المطلقة.
نكاد نجزم كلنا باستحالة الحصول على أيام مماثلة في يوم ما، وربما اجتمعنا على هذا الرأي منذ بدأنا في التفرق بعدها، وها نحن الآن أصبحنا سجناء لذكريات مضغوطة في عدة أشهر، فلا يكاد أحدنا يرى آخر أو يحادثه هاتفيا إلا وتبدأ تلك الذكريات في فرض نفسها على الحديث بما تسوقه من ضحكات لا يوقفها إلا أصوات الأنفاس المتلاحقة ومسحات المناديل تحت العيون.
ربما أكون قد حصلت بعدها على صحبة لا يجود الزمن بمثلها إلا نادرا، وربما تساق لي أيام يتقاطر المرح في جنباتها، ولكن تظل هناك أياما يعبث من يفكر في الحصول على مثلها وصحبة تجعل الحديث عن تكرارها ضربا من الخيال.